فصل: عزل السلطان الطواشي فيروز الجاركسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في يوم الأربعاء ثالث عشرين شوال قبض على سر النديم الحبشية دادة الملك العزيز بعدما كبس عليها بعدة أماكن وعوقب بسببها خلائق فلم يعترضها السلطان بسوء بل قررها على الملك العزيز فأعلمته أنه مختف بالقاهرة‏.‏

ثم قبض على صندل الطواشي وقرره السلطان أيضًا فقال كما قالت الدادة فتحقق السلطان منهما أن الملك العزيز وإينال لم يخرجا من القاهرة وأن الذي أشيع من خروجهما غير صحيح وأن الملك العزيز لم يجتمع مع إينال البتة وأنه كان هو وصندل هذا وطباخة إبراهيم ومشده أزدمر من غير زيادة على ذلك والملك العزيز ينتقل بهم من مكان إلى مكان وأن صندلًا فارقه من منذ أربعة أيام وقد طرده أزدمر المذكور لأمر وقع بينهما‏.‏

فلما قصد صندل مفارقتهم دفع له العزيز خمسين دينارًا ففارقهم صندل وصار يتردد إلى بيوت أصحابه في زي امرأة حتى دخل على بعض أصحابه من النسوة في الليل فآوته حتى أصبح فدل عليه زوجها حتى أمسك وعوقب حتى أقر على جميع ما ذكرناه وأنه الآن لا يعرف مكان العزيز‏.‏

فسجنه السلطان وهم بعقوبة الدادة فشفعت فيها خوند مغل بنت البارزي زوجة السلطان وتسلمتها من السلطان من غير عقوبة وتمت عندها‏.‏

فخف عن السلطان ما كان به قليلًا من أمر الملك العزيز فإنه كان ظن كل الظن أن إينال أخذه وتوجه إلى إينال الجكمي بدمشق ثم قبض على مرضعة الملك العزيز وزوجها وعلى جماعة أخر من الرجال والنساء ممن كان من جواري الأشرف ومعارفهن وممن اتهم بأنه معرفة أزدمر وإبراهيم الطباخ‏.‏

ثم في يوم الخميس رابع عشرين شوال

 عزل السلطان الطواشي فيروز الجاركسي

عن الزمامية لكونه تهاون في أمر الملك العزيز حتى تسحب من الدور السلطانية وعين السلطان عوضه زمامًا الطواشي جوهرًا القنقبائي الخازندار مضافًا إلى الخازندارية‏.‏

وفي ليلة الجمعة ويوم الجمعة كبست المؤيدية على مواضع كثيرة بالقاهرة وظواهرها ومضوا إلى دور الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم وكبسوا عليه وعلى جيرانه في طلب الأمير إينال الأشرفي والملك العزيز فلم يجدوا أحدًا‏.‏

وهرب الصاحب أمين الدين ثم ظهر وخلع عليه بعد ذلك‏.‏

واشتد طلب السلطان على الملك العزيز وهدد من أخفاه بأنواع العذاب والنكال فشمل الخوف غالب الناس‏.‏

ثم في يوم السبت سادس عشرين شوال خلع السلطان على جوهر الخازندار باستقراره زمامًا عوضًا عن فيروز الجاركسي بحكم عزله مضافًا للخازندارية والفحص على الملك العزيز مستمر في كل يوم وليلة وقد دخل الناس من الرعب والخوف ما لا مزيد عليه بسببه إلى أن كشف الله هذا البلاء عن الناس وقبض على الملك العزيز يوسف في ليلة الأحد سابع عشرين شوال واطمأن كل أحد على نفسه وماله بظهور الملك العزيز والقبض عليه‏.‏

خبر للملك عبد العزيز في فراره وكان من خبر الملك العزيز أنه لما اشتد الطلب عليه ضاقت عليه الأرض وكان له من يوم فر من القلعة وهو ينتقل من مكان إلى مكان لا سيما لما كثر الفحص عنه تخوف غاية الخوف حتى ألجأه ذلك إلى الانفراد مع أزدمر لا غير ليخف بذلك أمرهما على من أخفاهما ومع هذا تغلبا أين يذهبان‏.‏

واحتاج الملك العزيز أن أرسل إلى خاله الأمير بيبرس الأشرفي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بأنه يريد المجيء إليه في اللياق ويختفي عنده على ما قيل فواعده بيرس على أن يأتيه ليلًا‏.‏

ثم خاف بيبرس عاقبة أمره فإنه كان الملك الظاهر جقمق اختص به وأمره دون إخوته وأكرمه غاية الإكرام‏.‏

ورأى بيبرس أنه لا يحسن به أن يقبض عليه ويطلع به إلى السلطان فأعلم جاره يلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بمجيء الملك العزيز إليه في الليلة المذكورة وأعلمه أيضًا أنه يمر من موضع كذا وكذا‏.‏

فخرج يلباي في الليل متنكرًا ومعه اثنان من خجداشيته المؤيدية وترصد للعزيز بخط زقاق حلب بعد عشاء الآخرة وبينما هم في ذلك إذ مر بهم العزيز ومعه أزدمر مشده وهما في هيئة مغربيين فوثب يلباي بأزدمر ليقبض عليه فامتنع منه ودفع عن نفسه فضربه يلباي أدمى وجهه وأعانه عليه رفقته حتى قبض عليه وعلى الملك العزيز وكان على الملك العزيز جبة صوف من لبس المغاربة‏.‏

وطلعوا بهما في الحال إلى باب السلسلة ثم إلى السلطان والملك العزيز حاف بغير نعل في رجليه وقد أخذه بعض المؤيدية بأطواقه يسحبه على ما قيل فإني لم أحضر المجلس تلك الساعة‏.‏

فلما مثل العزيز بين يدي السلطان أوقف ساعة ثم أمر به السلطان فأخذ إلى مكان في القلعة وسجن به إلى أن أصبح‏.‏

وطلع الأمراء وأرباب الدولة إلى الخدمة على العادة ودقت البشائر لقبض الملك العزيز وسر السلطان بذلك سرورًا عظيمًا وخف عنه الأمر كثيرًا بالنسبة إلى ما كان فيه‏.‏

ثم أخذ السلطان الملك العزيز إلى زوجته خوند البارزية بقاعة العواميد وأسلمها العزيز وأمرها أن تجعله في المخدع المعد لمبيت السلطان بالقاعة المذكورة وأن تتولى أمر أكله وشربه وحاجاته بنفسها‏.‏

فأقام العزيز على ذلك مدة إلى أن نقله السلطان في ليلة الأربعاء ثامن ذي القعدة إلى مكان بالحوش وضيق عليه ومنع من جميع خدمه ثم سيره إلى سجن الإسكندرية حسبما يأتي ذكره‏.‏

وأمر السلطان بأزدمر فسجن بالبرج من قلعة الجبل مع جماعة من خجداشيته الأشرفية ووجد مع الملك العزيز من الذهب ثمانمائة دينار أعطى السلطان منها إلى يلباي خمسمائة دينار وإلى رفيقيه مائة دينار ثم فرق الباقي من ذلك على من حضر‏.‏

ثم أنعم السلطان على يلباي المذكور بقرية سرياقوس زيادة على ما بيده وصار من جملة أمراء الطبلخانات‏.‏

وهدأ سر السلطان من جهة الملك العزيز والتفت إلى أخبار إينال الجكمي وتغري برمش‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه ظهر الأمير إينال الأبو بكري الأشرفي من اختفائه‏.‏

وكان من خبره أنه من يوم تسحب الملك العزيز خاف القبض عليه فاختفى إلى أن ظهر الملك العزيز فخف عنه ما داخله من الوهم بسبب الملك العزيز وقد علم أن السلطان ظهر له أنه لم يجتمع مع الملك العزيز ولا قام بنصرته وأن اختفاءه كان نوعًا من مهابة السلطان‏.‏

فلما كان ليلة الثلاثاء المذكورة توجه إلى الأمير جرباش الكريمي المعروف بقاشق أمير مجلس وترامى عليه واستجار به وهو يظن أن في السويداء رجالًا فأجاره وهو يظن أن السلطان يقبل شفاعته‏.‏

وكان معظم ظهور إينال المذكور لما بلغه من اختفائه عن السلطان من الثناء عليه وبسط عذره في اختفائه وأنه باختفائه سكنت الفتنة فغره هذا الكلام وأيضًا أنه استند للأمير جرباش أمير مجلس وخجداش السلطان فأخذه الأمير جرباش من الغد في يوم الثلاثاء المذكور وطلع إلى القلعة‏.‏

وقد بلغ السلطان خبر إينال وظهوره ثم طلوعه مع جرباش فحال ما وقع بصر السلطان على إينال أمر به فقبض عليه وقيد وسجن بمكان بالقلعة حتى يحمل إلى الإسكندرية هذا والأمير جرباش يكرر تقبيل يد السلطان ورجله في أن يشفعه فيه ويدعه بطالًا ببعض الثغور فلم يلتفت السلطان إلى شفاعته ونزل جرباش إلى داره خجلًا مفضوحًا من حاشيته وأصحابه ومن يومئذ انحط قدره إلى أن مات‏.‏

على أنه صاهر السلطان بعد ذلك وصار حماه ومع هذا كله لم يكن له صولة في الدولة‏.‏

وأخرج السلطان إينال من يومه إلى سجن الإسكندرية وبها أعداؤه من خجداشيته فكان شماتتهم به أعظم عليه من حبسه‏.‏

وأخذ السلطان بعد ذلك يتشوف إلى أخبار عسكره المجرد إلى قتال إينال الجكمي وغيره‏.‏

فلما كان يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة ورد على السلطان كتاب الأمير آلابغا حاجب غزة يتضمن قتال عسكر السلطان مع إينال الجكمي نائب الشام في يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وانهزام إينال الجكمي فأخذت الناس في هذا الخبر وأعطوا غير أنه دقت البشائر وسر السلطان بذلك‏.‏

ثم أصبح من الغد في يوم الخميس ورد الخبر بمسك إينال الجكمي فدقت البشائر أيضًا‏.‏

غير أن السلطان في انتظار كتاب آقبغا التمرازي فورد عليه كتابه في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة وذكر واقعة العسكر مع إينال الجكمي وملخصها أن العساكر السلطانية المتوجهة من الديار المصرية والمتجمعة بالرملة من النواب والعساكر ساروا جميعًا من الرملة أمام الأمير قراخجا الحسني ومن معه من الأمراء والمماليك السلطانية كالجاليش لكن بالقرب منهم حتى نزلوا بمنزلة الخربة في يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وقد قدموا بين أيديهم كشافة على عادة العساكر فعادت الكشافة وأخبروا بقرب إينال الجكمي منهم‏.‏

فركبوا في الحال بعد أن عبوا أطلابهم وهم ستة نواب‏:‏ آقبغا التمرازي نائب الشام وجلبان الذي استقر نائب حلب وإينال العلائي نائب صفد - أعني الملك الأشرف - وطوخ مازي نائب غزة وطوغان العثماني نائب القدس وخليل بن شاهين وقد استقر نائب ملطية‏.‏

وساروا بمن اجتمع عليهم من العشير والعربان جاليشًا حتى وصلوا إلى مضيق قرب الحرة وإذا بجاليش إينال الجكمي فيه الأمير قانصوه النوروزي أحد مقدمي الألوف بدمشق ونائب بعلبك وكاشف حوران ومحمد الأسود بن القاق شيخ العشير ويرعلي الذكري أمير التركمان وطرعلي بن سقل سيز التركماني وكثير من العربان والعشير والجميع دون الألف فارس‏.‏

وصدموا النواب المذكورة فكانت بينهم وقعة كبيرة انهزم فيها الأطلاب الستة بعد أن أردفهم إينال الجكمي بنفسه وركب أقفية القوم وكان من الشجعان المشهورة إلى أن أوصلهم إلى السنجق السلطاني وتحته الأمير قراخجا الحسني الأمير آخور والأمير تمرباي رأس نوبة النوب بمن معهما من الأمراء والعساكر المصرية والسنجق بيد الأمير سودون العجمي النوروزي أحد أمراء العشرات ورأس نوبة وقد تخلت عن إينال أصحابه ومدوا أيديهم إلى النهب في أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر الشامي‏.‏

وبقي إينال في أناس قليلة فحط بهم على العسكر المصري فثبتوا له وقاتلوه ساعة وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب فلم يجد مساعدًا فانهزم بعد أن قتل من الفريقين جماعة كبيرة جدًا ولم يقتل من الأعيان غير الأمير صرغتمش أحد مماليك الوالد الذي كان دوادار الأمير جلبان ثم استقر دوادار السلطان بحلب وخرح خلق كثير‏.‏

وقبض في الوقعة على الأمير تنم العلائي المؤيدي وعلى الأمير بيرم صوفي التركماني وعلى الأمير خير بك القوامي ومحمد بن قانصوه النوروزي وجماعة أخر‏.‏

وحال بينهم الليل‏.‏

فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثاني في القعدة ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمي من قرية حرستا من عمل دمشق فدقت البشائر لذلك وتفرقت أخصاء السلطان للأعيان بالبشارة وزال ثلثا ما كان بالسلطان من أمر الملك العزيز وإينال وبقي تغري برمش‏.‏

وكان من خبر مسك إينال الجكمي أنه لما انكسر من العسكر المصري ساق في نفر يسير إلى أن وصل حرستا وقد تلفت خيوله لبعد المسافة ونزل بها وقد جهده التعب والجوع واختفى بها في مزرعة‏.‏

وأرسل بعض خدمه ليأتيه بطعام ففطن به رجل وعرف شيخ البلد فأرسل شيخ البلد إلى نائب قلعة دمشق بالخبر‏.‏

فخرج من دمشق في طلبه جانبك دوارار برسباي حاجب حجاب دمشق ومعه جماعة أخر وطرقوه بالقرية على حين غفلة فقام ودفع عن نفسه بكل ما تصل قدرته إليه فتكاثروا عليه وطعنه بعضهم في جنبه ورماه آخر أصاب وجهه ثم مسكوه وجيء به إلى دمشق على فرسه وقد وقف الفرس من العي فلم يصل إلى قلعة دمشق إلا بعد العصر والناس في جموع كثيرة لرؤيته ما بين باك وحزين وسجن بقلعة دمشق مقيدًا‏.‏

وأصبح دخل آقبغا التمرازي إلى دمشق في باكر نهار الجمعة ثالث ذي القعدة ومعه العساكر بسلاحهم ونزل بدار السعادة ولم يبتهج أهل دمشق بقدومه لعظم ميلهم لإينال الجكمي وإن كان آقبغا المذكور صهري فالواقع ما ذكرناه‏.‏

ومع هذا وقع يوم دخوله إلى دمشق حادثة غريبة وهي أن بلبان شيخ كرك نوح واسمه محمد وولده محمد أيضًا قدما إلى دمشق بجموعهما من العشير نصرة لعساكر السلطان - وبلبان المذكور فلاح الأمير برسباي الحاجب - كأكابر المدركين فلم يصل بلبان المذكور حتى انقضت الوقعة فتأسف على ذلك لما كان بينه وبين إينال الجكمي من المباينة مراعاة لأستاذه برسباي المذكور فعاد إلى دمشق في خدمة آقبغا التمرازي إلى أن دخل التمرازي إلى دار السعادة وذهب كل أمير إلى حال سبيله‏.‏

فعاد بلبان المذكور فيمن عاد حتى كان عند المصلى والعامة قد ملأت الطرقات وهم في كآبة لفقد إينال الجكمي ولما وقع له فصاح شخص من العامة بواحد من العشير من أعوان بلبان يقول‏:‏ ‏"‏ أبا بكر‏!‏ أبا بكر‏!‏ ‏"‏ وتبعه غيره يكررون ذلك مرارًا عديدة يريدون نكاية بلبان فإنهم يرمون بالرفض‏.‏

فلما كثر ذلك من العامة ضرب بعض العشير واحدًا من العامة فعند ذلك تجمعوا عليه وأرموه عن فرسه ليقتلوه فاجتمع أصحابه ليخلصوه من العامة وقبل أن يخلصوه بادره العامة وذبحوه وتناولوا الحجارة يرمون بها بلبان وأعوانه وكانوا في كثرة نحو الخمسمائة نفر وأكثر فتوغل بلبان بين أصحابه ولم يقدر أن يفوز بنفسه فتكاثروا عليه وألقوه إلى الأرض عن فرسه وذبحوه ثم أخذوا ابنه محمدًا أيضًا وذبحوه ووضعوا أيديهم في أصحاب بلبان إلى أن أسرفوا في القتل‏.‏

ولم يكن لذلك سبب ولا دسيسة من أحد ولا أمر من السلطان فوقع هذا الأمر ولم يقدر أحد على القيام بأخذ ثأره لاضطراب المملكة وراحت على من راحت إلى يومنا هذا‏.‏

قلت‏:‏ لا جرم إنما وقع له ببركة الشيخين فقوصص بذلك في الدنيا وله في الأخرى أعظم قصاص نكالًا من الله على رفضه وقبح سريرته‏.‏

ثم في يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة كتب بقتل إينال الجكمي بسجنه بقلعة دمشق بعد تقريره على أمواله وذخائره وبقتل جماعة من أصحابه ممن قبض عليه في الوقعة‏.‏

وفي هذه الأيام رسم السلطان بعقوبة جكم خال الملك العزيز بسجنه بالإسكندرية حتى يعترف بمتحصل الملك العزيز في أيام أبيه من إقطاعه وحماياته ومستأجراته فأجابهم عن ذلك كله وكان السلطان استولى على جميع ما للعزيز عند جذته لأمه من المال والقماش والفصوص وكان شيئًا كثيرًا‏.‏

وأمر السلطان أيضًا بعقوبة يخشباي الأمير آخور الثاني بسجن الإسكندرية أيضًا بعد أن أراد السلطان قتله بحكم الشرع من كونه سب شريفًا ببلاد الصعيد في أيام أستاذه الملك الأشرف فبادر يخشباي حتى حكم قاض شافعي بحقن دمه ووقع بسبب ذلك أمور وعقد مجلس بالقضاة والفقهاء ذكر ذلك كله في الحوادث‏.‏

ولما وقع اليأس من قتله رسم بعقوبته حتى يعترف بما له من الأموال فعوقب أشد عقوبة بحيث إنه لم يبق إلا موته‏.‏

ثم قدم الخبر على السلطان بأن العساكر توجهت من دمشق في حادي عشر ذي القعدة إلى حلب بعد أن عاد طوغان نائب القدس إلى القدس وتأخر آقبغا التمرازي نائب الشام به‏.‏

وكان الذي توجه من النواب إلى حلب صحبة العساكر المصرية‏:‏ جلبان نائب حلب وقاني باي الحمزاوي نائب طرابلس وهو إلى الآن بحماة غير أنه تهيأ للاجتماع بالعساكر المصرية وعنده أيضًا الأمير بردبك العجمي الذي استقر في نيابة حماة وقد قدمه إلى حلب وسار من النواب أيضًا الأمير إينال العلائي الناصري نائب صفد والأمير طوخ مازي نائب غزة‏.‏

وقدم الخبر أيضًا أنه قبض بدمشق على يرعلي الدكوي وشنق وأن تغري برمش نائب حلب كان نزل على حلب وصحبته الأمير طرعلي بن سقل سيز والأمير علي باي بار بن إينال بجمائعهما من التركمان والأمير غادر بن نعير بعربه من آل مهنا والأمير فرج وإبراهيم ولدا صوجي والأمير محمود ابن الدكري أيضًا بجمائعهم من التركمان وعدة الجميع نحو ثلاثة آلاف فارس وأن تغري برمش خيم بالجوهري وبعث بعدة كبيرة إلى خارج باب المقام فخرج إليه الأمير بردبك العجمي الذي ولي نيابة حماة وقد قدم حلب من أيام ومعه جماعة من أمراء حلب ومن تركمان الطاعة ومن العامة فكانت بينهم وقعة هائلة قتل فيها وجرح جماعة كثيرة من الفريقين وعاد كل منهما إلى مكانه‏.‏

ثم التقى الجمعان ثانيًا في يوم الجمعة خامس عشرين شوال على باب النيرب واقتتلوا يومًا وليلة قتالًا شديدًا قتل فيه عدة كبيرة من الناس وجرح نائب حماة وطائفةمن أمراء حلب ثم رجع كل فريق إلى موضعه‏.‏

ورحل تغري برمش من موضعه في يوم الأحد سابع عشرينه ونزل بالميدان والحرب مستمر والعامة تبذل جهدها في قتاله إلى أن كان يوم الخميس ثاني ذي القعدة أحضر تغري برمش آلات الحصار من مكاحل النفط والسلالم والجنويات إلى باب الفرج ونصب صيوانه تجاه سور حلب وجد في قتال الحلبيين‏.‏

هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله طول النهار مع ليلة الجمعة بطولها وأهل حلب يتضرعون ويدعون الله تعالى‏.‏

فلما أصبح نهار الجمعة رحل تغري برمش عن مكانه وعاد إلى الميدان بعد أن كانت القضاة وشيوخ العلم والصلاح وقفوا بالمصاحف والربعات على رؤوسهم وهم ينادون من فوق الأسوار‏:‏ ‏"‏ الغزاة معاشر الناس في العدو فإنه من قتل منكم كان في الجنة ومن قتل من العدو صار إلى النار ‏"‏ في كلام كثير يحرضون بذلك العامة على القتال ويقوون عزائمهم على الثبات إلى أن رحل تغري برمش بمن معه من الميدان إلى الجهة الشمالية في يوم الأحد خامس ذي القعدة بعد ما رعت مواشيهم زروع الناس وبساتينهم وكرومهم وقطعوها ونهبوا القرى التي حول المدينة وأخربوا غالب العمارات التي كانت خارج سور حلب وقطعوا القناة التي تدخل إلى مدينة حلب من ثلاثة أماكن‏.‏

وكان أشد الناس في قتال تغري برمش أهل بانقوسا‏.‏

هذا بعد أن ظفر تغري برمش بجماعة من الحلبيين في بعض قتاله فقطع أيدي الجميع وبالغ في الإضرار بالناس‏.‏

وأنا أقول‏:‏ لو كان لتغري برمش على أهل حلب دولة لفعل فيهم أعظم من فعل تيمورلنك لقلة دينه وجبروته ولحنقه من أهل حلب وأنا أعرف بحاله من غيري لكونه طالت أيامه في خدمة الوالد سنين ثم قتل أغاته من مماليك الوالد وفر كما سنحكيه في وفاته من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما بلغ هذا الخبر الملك الظاهر قلق قلقًا عظيمًا لما وقع لرعيته من أهل حلب‏.‏

فلم يكن إلا أيامًا قليلة وقدم الخبر في يوم السبت خامس عشرين ذي القعدة بكسرة تغري برمش المذكور فدقت البشائر لذلك وعظم سرور السلطان غير أنه تشوش لعدم مسكه وخاف عاقبة أمره‏.‏

وكان من خبره أن العسكر المصري بمن معه من العسكر الشامي لما ساروا من دمشق إلى جهة حلب وافاهم الأمير قاني باي محمزاوي وغيره وصاروا جمعًا واحدًا فلقيهم تغري برمش المذكور بجموعه التي كانت معه قريبًا من حماة في يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة وقد صف عساكره من التركمان وغيرهم حتى ملؤوا الفضاء‏.‏

فحال ما وقع بصر عسكره على العساكر السلطانية أخذوا في الانهزام من غير مصاففة بل بعض تناوش من صغائر الطائفتين وولوا الأدبار ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغري برمش فغنموا منهم غنائم لا تحصى كثرة منها نحو المائتي ألف رأس من الغنم سوى ما تمزق ونهب جميع وطاق تغري برمش وماله وانهزم هو في جماعة يسيرة من خواصه إلى جهة التركمان الصوجية على ما نذكره من قصته في ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

ثم في يوم الاثنين سابع عشرين ذي القعدة قدم النجاب برأس الأمير إينال الجكمي وكان قتله بقلعة دمشق في ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة فشهرت الرأس على رمح ونودي عليه‏:‏ ‏"‏ هذا جزاء من حارب الله ورسوله ‏"‏ ثم علقت على باب زويلة‏.‏

وقتل معه الأمير تنم العلائي المؤيدي وكان تنم المذكور أدوبًا حشمًا وقورًا وأما إينال الجكمي فيأتي التعريف بحاله في الوفيات على العادة‏.‏

وفي هذه الأيام حكم بقتل الأمير يخشباي الأشرفي الأمير آخور الثاني وقد تقدم أنه ادعي عليه أنه سب شريفًا ولعن والديه وأن بعض نواب الشافعي حكم بحقن دمه وسكن الحال مدة أشهر ثم طلب السلطان من القاضي المالكي قتله فاحتج بحكم الشافعي بحقن دمه فعورض بأن المطلوب الآن من الدعوى عليه غير المحكوم فيه بحقن الدم فصمم المالكي بأنهما قضية واحدة ووافقه غير واحد من المالكية ووقع أمور حكاها غير واحد من المؤرخين إلى أن قتل يخشباي المذكور حسبما يأتي ذكره‏.‏

ثم ورد على السلطان في يوم الأحد ثالث ذي الحجة مطالعة الأمير جلبان نائب حلب وقرينها مطالعات بقية الأمراء والنواب تتضمن أن تغري برمش لما انهزم على حماة مضى نحو الجبل الأقرع وقد فارقه الغادر بن نعير فقبض عليه أحمد وقاسم ولدا صوجي وقبض معه على دواداره كمشبغا وخازنداره يونس وعلى الأمير طرعلي بن سقل سيز والأمير صارم الدين إبراهيم بن الهذباني نائب قلعة صهيون وكتبوا بذلك إلى نائب حلب فورد الخبر بذلك على العسكر وهم على خان طومان في يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة‏.‏

فجهز الأمير جلبان عند ذلك الأمير برد بك العجمي نائب حماة والأمير إينال العلائي نائب صفد والأمير طوخ مازي نائب غزة والأمير قطج أتابك حلب والأمير سودون النوروزي حاجب حجاب حلب لإحضار المذكورين‏.‏

ورحل جلبان بمن بقي معه يريد حلب فدخلها في يوم الثلاثاء حادي عشرين ذي القعدة المذكورة‏.‏

وسار بردبك العجمي نائب حماة بمن معه إلى أن تسلم تغري برمش ومن ذكرنا ممن قبض عليه من أصحابه وأتوا بهم‏.‏

فسمر طرعلي بن سقل سيز تسمير سلامة وسمر لهذباني ورفقته تسمير عطب‏.‏

وساروا بهم وتغري برمش راكب على فرس بقيد حديد حتى دخلوا به مدينة حلب وهو ينادي عليهم في يوم الخميس ثالث عشرينه وقد اجتمع من أعدائه الحلبيين خلائق لا يعلم عدتها إلا الله وهم من التخليق بالزعفران والتهانىء في أمر كبير‏.‏

وصاروا يسمعون تغري برمش المذكور من المكروه والسب والتوبيخ وإظهار الشماتة به أمورًا كثيرة حتى أوقفوهم تحت قلعة حلب ووسط الهذباني ورفيقه وتسلم تغري برمش وطرعلي الأمير حطط نائب قلعة حلب‏.‏

فانظر إلى هذا القصاص وهو أن تغري برمش لم يكن له في الدنيا عدو أعظم من بردبك العجمي وحطط ثم عامة حلب وقد تمكن الثلاثة منه فأما بردبك فإنه تسلمه وتحكم فيه من وقت أخذه من أولاد صوجي إلى أن أوصله إلى قلعة حلب وأما حطط فإنه تحكم فيه من وقت تسلمه من بردبك العجمي إلى أن قتل بين يديه وأما عامة أهل حلب فإنهم بلغوا منه مرادهم من إسماعه المكروه والشماتة به والتفرج عليه يوم قتله فنعوذ بالله من زوال النعم وشماتة الأعداء‏.‏

وأما السلطان الملك الظاهر فإنه لما بلغه القبض على تغري برمش كاد أن يطير فرحًا وعلم أنه الآن بقي في السلطنة بغير نكد ولا تشويش‏.‏

ودقت البشائر لذلك ثلاثة أيام‏.‏

وكتب بقتل تغري برمش بعد عقوبته ليقر على أمواله فعوقب فأقر على شيء من ماله نحو الخمسين ألف دينار ثم انزل ونودي عليه إلى تحت قلعة حلب وضربت عنقه‏.‏

وقتل معه أيضًا طرعلي بن سقل سيز‏.‏

وصفا الوقت للملك الظاهر وخلا له الجو من غير منازع والتفت الآن إلى من له عنده رأس قديمة يكافئه عليها من خير وشر‏.‏

فأول ما بدأ به في يوم الخميس ثامن عشرين ذي الحجة أن قبض على زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيش وعلى مملوكه جانبك الأستادار وعلى عدة كبيرة من حواشيه وأحيط بدور الجميع وكتب بإيقاع الحوطة على جميع ماله بالشام والحجاز والإسكندرية فزال بمسكه غمة كبيرة عن الناس فإنه كان غير محبب للناس حتى ولا إلى أصحابه لبادرة كانت فيه وسوء خلق وبطش مع سفه وبذاءة لسان‏.‏

ثم في يوم السبت سلخ ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين خلع السلطان على القاضي محب الدين بن الأشقر باستقراره في وظيفه نظر الجيش عوضًا عن عبد الباسط وخلع على الناصري محمد بن عبد الرزاق بن أبى الفرج نقيب الجيش باستقراره أستادارًا عوضًا عن جانبك الزيني عبد الباسط‏.‏

وابن الأشقر المذكور وابن أبي الفرج كل منهما كان من أصحاب عبد الباسط‏.‏

قلت‏:‏ عود وانعطاف على ما ذكرناه أنه كان يكرهه حتى أعز أصحابه ولولا ذاك ما وليا عنه هؤلاء وظائفه في حياته وإن كانا تمنعا عند الولاية فهذا باب تجمل ليس على حقيقته ولا يخفى ذلك على من له ذوق سليم فإننا لا نعرف أحدًا ولي وظيفة غصبًا كائنًا من كان‏.‏

وفي يوم السبت المذكور قدم رأس تغري برمش فطيف بها ثم علقت على باب زويلة أيامًا‏.‏

وفرغت هذه السنة أعني سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة بعد أن كان فيها حوادث كثيرة وعدة وقائع حسبما ذكرناه‏.‏

واستهلت سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة والسلطان مصمم على أنه لا يقنع منه بأقل من ألف ألف دينار ويهدده بالعقوبة ويعدد له ذنوبه حتى قال في بعض مجالسه بحضرتي‏:‏ ‏"‏ والله أشنكله بشنكال مثلما كانت تعمل الجغتية‏.‏

هذا أخرب مملكة مصر‏.‏

كان إذا كلمه أحد من أعيان الأمراء صفر له بفمه في وجهه ‏"‏ وأشياء كثيرة من ذلك‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثاني محرم سنة ثلاث وأربعين خلع السلطان على القاضي ولي الدين محمد السفطي مفتي دار العدل وأحد ندماء السلطان وخواصه باستقراره في نظر الكسوة مضافًا لما بيده من وكالة بيت المال - فإن شرط الواقف أن يكون وكيل بيت المال ناظر الكسوة - عوضًا ثم خلع السلطان على فتح الدين محمد بن المحرقي باستقراره ناظر الجوالي عوضًا عن عبد الباسط وكان فتح الدين المذكور من حواشي الملك الظاهر أيضًا‏.‏

ثم في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم أفرج عن جانبك الزيني عبد الباسط بعد أن حوسب في بيت تغري بردي المؤذي الدوادار الكبير وقد شطب عليه بمبلغ ألف ألف وثلاثماثة ألف درهم وجبت عليه للديوان وذلك سوى العشرة آلاف دينار التي ألزم بها‏.‏

ثم في سلخ المحرم قدم الأمير يشبك السودوني أمير سلاح من بلاد الصعيد بمن معه من المماليك الأشرفية وغيرهم فخلع السلطان عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن آقبغا التمرازي بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق‏.‏

وكان يشبك أنعم عليه بالإقطاع والوظيفة من يوم ذاك غير أنه كان غائبًا ببلاد الصعيد هذه المدة الطويلة فلما حضر خلع عليه بالأتابكية‏.‏

ثم في يوم الاثنين أول صفر قدم الأمير قاني باي الأبو بكري الناصري المعروف بالبهلوان أتابك دمشق إلى القاهرة وخلع السلطان عليه باستقراره في تيابة صفد عوضًا عن الأمير إينال العلائي الناصري بحكم عزل إينال المذكور واستقراره من جملة مقدمي الألوف بديار مصر ورسم باستقرار الأمير إينال الششماني الناصري أحد مقدمي الألوف بدمشق في الأتابكية عوضًا عن قاني باي البهلوان‏.‏